فصل: ثم دخلت سنة تسع وأربعين وسنة خمسين

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تاريخ أبي الفداء **


  ثم دخلت سنة إِحدى وأربعين

تسليم الحسن الأمر إِلى معاوية قيل‏:‏ كان علي قبيل موته قد بايعه أربعون ألفاً من عسكره على الموت وأخذ في التجهز إِلى قتال معاوية فاتفق مقتله ولما بويع الحسن بلغه مسير أهل الشام إِلى قتاله مع معاوية فتجهز الحسن في ذلك الجيش الذين كانوا قد بايعوا أباه وسار عن الكوفة إِلى لقاء معاوية ووصل إِلى المدائن وجعل الحسن على مقدمته قيس بن سعد في اثني عشر ألفاً وقيل بل الذي جعله على مقدمته عبيد الله ابن عباس وجرى في عسكره فتنة قيل حتى نازعوا الحسن بساطاً كان تحته فدخل المقصورة البيضاء بالمدائن وازداد لذلك العسكر بغضاً ومنهم ذعراً‏.‏

ولما رأى الحسن ذلك كتب إِلى معاوية واشترط عليه شروطاً وقال إِن أجبت إليها فأنا سامع مطيع فأجاب معاوية إِليها وكان الذي طلبه الحسن أن يعطيه ما في بيت مال الكوفة وخراج دارا بجرد من فارس وأن لا يسب علياً فلم يجبه إلى الكف عن سبّ علي فطلب الحسن أن لا يشتم علياً وهو يسمع فأجابه إِلى ذلكَ ثم لم يف له به وقيل إِنه وصله بأربعمائة ألف درهم ولم يصل إِليه شيء من خراج دارا بجرد ودخل معاوية الكوفة فبايعه الناس وكتب الحسن إِلى قيس بن سعد يأمره بالدخول في طاعة معاوية ثم جرت بين قيس وعبيد الله بن عباس وبين معاوية مراسلات وآخر الأمر أنهما بايعا ومن معهما وشرطا أن لا يطالبا بمال ولا دم ووفى لهما معاوية بذلك ولحق الحسن بالمدينة وأهل بيته وقيل كان تسليم حسن الأمر إِلى معاوية في ربيع الأول سنة إحدى وأربعين وقيل في ربيع الآخر وقيل في جمادى الأولى وعلى هذا فتكون خلافته على القول الأول خمسة أشهر ونحو نصف شهر وعلى الثاني ستة أشهر وكسراً وعلى الثالث سبعة أشهر وكسراً‏.‏

روى سفينة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏الخلافة بعدي ثلاثون سنة ثم يعود ملكاً عضوضاً ‏)‏‏.‏

وكان آخر الثلاثين يوم خلع الحسن نفسه من الخلافة وأقام الحسن بالمدينة إِلى أن توفي بها في ربيع الأول سنة تسع وأربعين وكان مولده بالمدينة سنة ثلاث من الهجرة وهو أكبر من الحسين بسنة وتزوج الحسن كثيراً من النساء وكان مطلاقاً وكان له خمسة عشر ولداً ذكراً وثماني بنات وكان يشبه جده رسول الله صلى الله عليه وسلم من رأسه إلى سرته وكان الحسين يشبه جده رسول الله صلى الله عليه وسلم من سرته إِلى قدمه‏.‏

وتوفي الحسن من سم سقته زوجته جعدة بنت الأشعث قيل فعلت ذلك بأمر معاوية وقيل بأمر يزيد بن معاوية ووعدها أنه يتزوجها إِن فعلت ذلك فسقته السم وطالبت يزيد أن يتزوجها فأبى‏.‏

وكان الحسن قد أوصى أن يدفن عند جده رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما توفي أرادوا ذلك وكان على المدينة مروان بن الحكم من قبل معاوية فمنع من ذلك وكاد يقع بين بني أمية وبين بني هاشم بسبب ذلك فتنة فقالت عائشة رضي الله عنها‏:‏ البيت بيتي ولا آذن أن يدفن فيه فدفن بالبقيع ولما بلغ معاوية موت الحسن خر ساجداً‏.‏

فقال بعض الشعراء‏:‏

أصبح اليوم ابن هند شامتاً ** ظاهر النخوة إِذ مات الحسن

يا ابن هند إِن تذق كأس الردى ** تكُ في الدهر كشيء لم يكن

لست بالباقي فلا تشمت به ** كل حي للمنايا مرتهن

ومن فضائل الحسن في الصحيح قول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة وأبوهما خير منهما‏)‏ وروى أنه قال عن الحسن‏:‏ ‏(‏إِن ابني هذا سيد وسيصلح الله به بين فئتين من المسلمين‏)‏ وروي أنه مر بالحسن والحسين وهما يلعبان فطأطأ لهما عنقه وحملهما وقال‏:‏ ‏(‏نعم المطية مطيتهما ونعم الراكبان هما ‏)‏‏.‏

خلفاء بني أمية

وهم أربعة عشر خليفة أولهم معاوية بن أبي سفيان وآخرهم مروان الجعدي وكان مدة ملكهم نيفاً وتسعين سنة وهي ألف شهر تقريباً قال القاضي جمال الدين ابن واصل رحمه الله‏:‏ إِن ابن الأثير قال في تاريخه إِنه لما سار الحسن من الكوفة عرض له رجل فقال‏:‏ يا مسِّود وجوه المؤمنين‏.‏

فقال لا تعذلني فإِن رسول الله صلى الله عليه وسلم أُري في منامه أن بني أمية ينزّون على منبره رجلاَ فرجلا فساءه ذلك فأنزل الله تعالى ‏(‏إِنا أعطيناك الكوثر‏)‏ ‏(‏الكوثر‏:‏ 1‏)‏ ‏(‏إنا أنزلناه في ليلة القدر وما أدراك ما ليلة القدر ليلة القدر خير من ألف شهر‏)‏ ‏(‏القدر‏:‏1-3 ‏)‏ يملكها بعد بنو أمية‏.‏

أخبار معاوية بن أبي سفيان ابن صخر بن حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي وأمه هند بنت عتبة ويكنى أبا عبد الرحمن وبويع بالخلافة يوم اجتماع الحكمين وقيل ببيت المقدس بعد قتل علي وبويع البيعة التامة لما خلع الحسن نفسه وسلم الأمر إِليه واستمر معاوية في الخلافة‏.‏

  ثم دخلت سنة اثنتين وأربعين وسنة ثلاث وأربعين

فيها توفي عمرو بن العاص بن وائل بن هاشم بن سعد بن سهم بن عمرو بن هصيص بن كعب بن لؤي القرشي السهمي وعمرو المذكور هو أحد الثلاثة الذين كانوا يهجون رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم عمرو بن العاص وأبو سفيان بن حرب وعبد الله بن الزبعري وكان يجيبهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أيضاً وهم حسان بن ثابت وعبد الله بن رواحة وكعب بن مالك وكانت مصر طمعة لعمرو من معاوية بعد رزق جندها حسب ما كان شرطه له لمعاوية عند اتفاقه معه على حرب علي بن أبي طالب رضي الله عنه وفي ذلك يقول عمرو‏:‏ معاوي لا أعطيك ديني ولم أنل به منك دنيا فانظرن كيف تصنعُ فإِن تعطني مصرا ربحت بصفقة أخذت بها شيخاً يضر وينفع ولما مات عمرو ولى معاوية مصر ابنه عبد الله بن عمرو ثم عزله عنها

  ثم دخلت سنة أربع وأربعين

استلحاق معاوية زياداً وفي هذه السنة استلحق معاوية زياد بن سمية وكانت سمية جارية للحارث بن كلدة الثقفي فزوجها بعبد له رومي يقال له عبيد فولدت سمية زياداً على فراشه فهو ولد عبيد شرعاً‏.‏

وكان أبو سفيان قد سار في الجاهلية إلى الطائِف فنزل على إِنسان يبيع الخمر يقال له أبو مريم أسلم بعد ذلك وكانت له صحبة فقال له أبو سفيان‏:‏ قد اشتهيت النساء فمال أبو مريم‏:‏ هل لك في سمية فقال أبو سفيان‏:‏ هاتها على طول ثدييها وذفرة بطنها‏.‏

فأتاه بها فوقع عليها فيقال إِنها علقت منه بزياد ثم وضعته في السنة التي هاجر فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

ونشأ زياد فصيحاً وحضر زياد يوماً بمحضر من جماعة من الصحابة في خلافة عمر فقال عمرو بن العاص لو كان أبو هذا الغلام من قريش لساق العرب بعصاه فقال أبو سفيان لعلي بن أبي طالب‏:‏ إِني لأعرف من وضعه في رحم أمه‏.‏

فقال علي فما يمنعك من استلحاقه قال‏:‏ أخاف الأصلع يعني عمر أن يقطع إِهابي بالدرة‏.‏

ثم لما كان قضية شهادة الشهود على المغيرة بالزنا وجلدهم ومنهم أبو بكرة أخو زياد لأمه وامتناع زياد عن التصريح كما ذكرنا اتخذ المغيرة بذلك لزياد يداً ثم لما ولي علي بن أبي طالب رضي الله عنه الخلافة استعمل زياداً على فارس فقام بولايتها أحسن قيام ولما سلم الحسن الأمر إلى معاوية امتنع زياد بفارس ولم يدخل في طاعة معاوية وأهمل معاوية أمره وخاف أن يدعو إِلى أحد من بني هاشم ويعيد الحرب وكان معاوية قد ولى المغيرة بن شعبة الكوفة فقدم المغيرة على معاوية سنة اثنتين وأربعين فشكا إِليه معاوية امتناع زياد بفارس فقال المغيرة‏:‏ أتأذن لي في المسير إِليه‏:‏ فأذن له‏.‏

وكتب معاوية لزياد أماناً فتوجّه المغيرة إِليه لما بينهما من المودة وما زال عليه حتى أحضره إِلى معاوية وبايعه وكان المغيرة يكرم زياداً ويعظمه من حين كان منه في شهادة الزنا ما كان‏.‏

فلما كانت هذه السنة أعني سنة أربع وأربعين استلحق معاوية زياداً فأحضر الناس وحضر من يشهد لزياد بالنسب وكان ممن حضر لذلك أبو مريم الخمار الذي أحضر سمية إلى أبي سفيان بالطائف فشهد بنسب زياد من أبي سفيان قال‏:‏ إني رأيت اسكتي سمية يقطران من مني أبي سفيان فقال زياد‏:‏ رويدك طلبت شاهداً ولم تطلب شتاماً فاستلحقه معاوية وهذه أول واقعة خولفت فيها الشريعة علانية لصريح قول النبي صلى الله عليه وسلم ‏(‏الولد للفراش وللعاهر الحجر‏)‏ وأعظمَ الناس ذلك وأنكروه خصوصاً بنو أمية لكون زياد بن عبيد الرومي صار من بني أمية بن عبد شمس وقال عبد الرحمن بن الحكم أخو مروان في ذلك‏:‏ ألا أبلغ معاوية بن صخر لقد ضاقت بما تأتي اليدان أتغضبُ أن يقال أبو عف وترضى أن يقال أبوك زاني وأشهد أن رحمك من زياد كرحم الفيل من ولد الأتان ثم ولى معاوية زياداً البصرة وأضاف إِليه خراسان وسجستان ثم جمع له الهند والبحرين وعُمان‏.‏

وفيها أعني سنة أربع وأربعين توفيت أم حبيبة بنت أبي سفيان زوج النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

  ثم دخلت سنة خمس وأربعين

فيها قدم زياد إِلى البصرة فشدد أمر السلطنة وأكد الملك لمعاوية وجرد السيف وأخذ بالظنة وعاقب على الشبهة فخاف الناس خوفاً شديداً وذكر أنه لم يخطب أحد بعد علي بن أبي طالب رضي الله عنه مثل زياد‏.‏

ولما مات المغيرة سنة خمسين وكان عاملا لمعاوية على الكوفة ولى معاوية الكوفة أيضاً زياداً فسار زياد إِليها واستخلف على البصرة سمرة بن جندب فحذا حذو زياد في سفك الدماء وكان زياد يقيم بالكوفة ستة أشهر وفي البصرة مثلها وهو أول من سير بين يديه بالحراب والعمد واتخذ الحرس خمس مائة لا يفارقون مكانه‏.‏

وكان معاوية وعماله يدعون لعثمان في الخطبة يوم الجمعة ويسبون علياً ويقعون فيه ولما كان المغيرة متولي الكوفة كان يفعل ذلك طاعة لمعاوية فكان يقوم حجر وجماعة معه فيردون عليه سبّه لعليٍ رضي الله عنه وكان المغيرة يتجاوز عنهم فلما ولي زياد دعا لعثمان وسب علياً وما كانوا يذكرون علياً باسمه وإنما كانوا يسمونه بأبي تراب وكانت هذه الكنية أحب الكنى إِلى علي لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كناه بها فقام حجر وقال‏:‏ كما كان يقول من الثناء على علي فغضب زياد وأمسكه وأوثقه بالحديد وثلاثة عشر نفراً معه وأرسلهم إِلى معاوية فشفع في ستة منهم عشائِرهم وبقي ثمانية منهم‏:‏ حجر فأرسل معاوية من قتلهم بعذرا وهي قرية بظاهر دمشق رضي الله عنهم وكان حجر من عظم الناس ديناً وصلاة وأرسلت عائشة تتشفع في حجر فلم يصل رسولها إِلا بعد قتله‏.‏

قال القاضي جمال الدين بن واصل وروى ابن الجوزي بإِسناده عن الحسن البصري أنه قال‏:‏ أربع خصال كن في معاوية لو لم يكن فيه إِلا واحدة لكانت موبقة وهي أخذه الخلافة بالسيف من غير مشاورة وفي الناس بقايا الصحابة وذوو الفضيلة واستخلافه ابنه يزيد وكان سكيراً خميراً يلبس الحرير ويضرب بالطنابير وادعاؤه زياداً وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الولد للفراش والعاهر للحجر وقتله حجر بن عدي وأصحابه فيا ويلاً له من حجر وأصحاب حجر‏.‏

وروي عن الشافعي رحمة الله عليه أنه أسرّ إِلى الربيع أنّه لا يقبل شهادة أربعة من الصحابة وهم معاوية وعمرو بن العاص والمغيرة وزياد‏.‏

وفيها أعني سنة خمسٍ وأربعين توفي عبد الرحمن بن خالد بن الوليد وكان أهل الشام قد مالوا إليه جداً فدس إليه معاوية سماً مع نصراني يقال له أثال فاغتاله به‏.‏

  ثم دخلت سنة ست وأربعين وسنة سبع وأربعين

فيها توفي قيس بن عاصم بن سنان بن خالد بن منقر وإليه ينسب فيقال المنقري وفد على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم في وفد بني تميم فأسلم وكان قيس المذكور موصوفاً بمكارم الأخلاق‏.‏

  ثم دخلت سنة ثمان وأربعين

  غزوة القسطنطينية

في هذه السنة أعني سنة ثمان وأربعين صبر معاوية جيشاً كثيفاً مع سفيان ابن عوف إلى القسطنطينية فأوغلوا في بلاد الروم وحاصروا القسطنطينية وكان في ذلك الجيش ابن عباس وعمرو بن الزبير وأبو أيوب الأنصاري‏.‏

وتوفي في مدة الحصار أبو أيوب الأنصاري ودفن بالقرب من سورها وشهد أبو أيوب مع النبي صلى الله عليه وسلم بدراً وأحداً وشهد مع علي صفين وغيرها من حروبه‏.‏

  ثم دخلت سنة تسع وأربعين وسنة خمسين

فيها بنيت القيروان وكمل بناؤها في سنة خمس وخمسين وكان من حديثها أنَّ معاوية ولى عقبة بن نافع إفريقية وكان عقبة المذكور صحابياً من الصالحين فوضع السيف في هل إِفريقية لأنهم كانوا يرتدون إِذا فارقهم العسكر وكان مقام الولاة بزويلة وبرقة فرأى عقبة أن يتخذ مدينة بتلك البلاد تكون مقراً للعسكر واختار موضع وفيها أعني في سنة خمسين توفي دحية الكلبي وهو دحية بن خليفة بن فروة بن فضالة منسوب إِلى كلب بن وبرة أسلم قديماً ولم يشهد بدراً قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أشبه من رأيت بجبريل دحية الكلبي ‏)‏‏.‏

  ثم دخلت سنة إِحدى وخمسين

فيها توفي سعيد بن زيد أحد العشرة المشهود له بالجنة رضي الله عنهم‏.‏

  ثم دخلت سنة اثنتين وخمسين وسنة ثلاث وخمسين

فيها هلك زياد ابن أبيه في رمضان من أكلةِ في إِصبعه وكان مولده عام الهجرة‏.‏

  ثم دخلت سنة أربع وخمسين

وسنة خمس وخمسين وسنة ست وخمسين وفيها ولى معاوية سعيد بن عثمان بن عفان خراسان فقطع نهر جيحون إلى سمرقند والصغدِ وهزم الكفار وسار إلى ترمذ ففتحها صلحاً‏.‏

وممن قتل معه في هذه الغزوة قثم بن العباس ودفن بسمرقند ومات أخوه عبد الله بن العباس بالطائف والفضل بالشام ومعبد بإِفريقية فيقال‏:‏ لم ير قبور أخوة أبعد من قبور هؤلاء الأخوة بني العباس‏.‏

وفي هذه السنة بايع معاوية الناس لابنه يزيد بولاية العهد بعده وبايعه أهل الشام والعراق وكان المتولي على المدينة من جهة معاوية مروان بن الحكم فأراد البيعة له فامتنع من ذلك الحسين وعبد الله بن عمر وعبد الرحمن بن أبي بكر وعبد الله بن الزبير وامتنع الناس لامتناعهم وآخر الأمر أن معاوية قدم بنفسه إِلى الحجاز ومعه ألف فارس وتحدث مع عائشة في أمرهم وآخر الأمر أنه بايع ليزيد أهل الحجاز وتأخر المذكورون عن البيعة‏.‏

ويروى أنّ معاوية قال لابنه يزيد‏:‏ إِني مهدت لك الأمور ولم يبق أحد لم يبايعك غير هؤلاء الأربعة فأمّا عبد الرحمن فرجل كبير تهابه اليوم وغداً وأما ابن عمر فرجل قد غلب عليه الورع وأمّا الحسين فله قرابة فإِن ظفرت به فاصفح عنه وأما ابن الزبير فإِن ظفرت به فقطعه إرْباً إِرْباً‏.‏

  ثم دخلت سنة سبع وخمسين وسنة ثمان وخمسين

فيها توفيت أم المؤمنين عائشة بنت أبي بكر الصديق زوج النبي صلى الله عليه وسلم رضي اللّه عنها‏.‏

وفيها توفي أخوها عبد الرحمن بن أبي بكر‏.‏

  ثم دخلت سنة تسع وخمسين

فيها توفي سعيد بن العاص بن أمية ولد عام الهجرة وقتل أبوه العاص يوم بدر كافراً وكان سعيد من أجواد بني أمية‏.‏

وفي هذه السنة أعني سنة تسع وخمسين مات الحطيئة واسمه جرول بن مالك لقب الحطيئة لقصره أسلم ثم ارتد ثم أسلم وقال عند أطعنا رسول اللّه ما كان بيننا فيا لعباد الله ما لأبي بكر أيورثها بكراً إِذا مات بعده وتلك لعمر اللّه قاصمة الظهر وفيها توفي أبو هريرة واختلف في اسمه ونسبه وهو ممن لازم خدمة رسول الله صلى الله عليه وسلم وروى عنه الكثير فاتهمه بعض الناس لكثرة ما رواه من الأحاديث والأكثر يصححون روايته ولا يشكون فيها‏.‏

  ثم دخلت سنة ستين

وفاة معاوية وفيها في رجب توفي معاوية بن أبي سفيان وكانت مدة خلافته تسع عشرة سنة وثلاثة أشهر وسبعة وعشرين يوماً منذ اجتمع له الأمر وبايعه الحسن بن علي وكان عمره خمساً وسبعين وقيل سبعين وقيل غير ذلك وأنشد معاوية وقد تجلد للعائدين‏:‏ وتجلدي للشامتين أريهُم ** أني لريبِ الدهرِ لا أتضَعْضَع

وإذا المنيّةُ أنشبتْ أظفارها ** ألفيت كلّ تميمةٍ لا تنفعُ

ولما توفي معاوية خرج الضحاك بن قيس حتى أتى المنبر فصعده ومعه أكفان معاوية فأثنى على معاوية وأعلم الناس بموته وأنّ هذه أكفانه ثم صلى عليه الضحاك وكان يزيد غائباً بقرية أخبار معاوية أسلم معاوية مع أبيه عام الفتح واستكتبه النبي صلى الله عليه وسلم واستعمله عمر على الشام أربع سنين من خلافته وأقره عثمان مدة خلافته نحو اثنتي عشرة سنة وتغلب على الشام محارباً لعلي أربع سنين فكان أميراً وملكاً على الشام نحو أربعين سنة وكان حليماً حازماً داهية عالماً بسياسة الملك وكان حلمه قاهراً لغضبه وجوده غالباً على منعه يصل ولا يقطع‏.‏

ومما يحكى عن حلمه من تاريخ القاضي جمال الدين بن واصل أن أروى بنت الحارث بن عبد المطلب بن هاشم دخلت على معاوية وهي عجوز كبيرة فقال لها معاوية‏:‏ مرحباً بك يا خالة كيف أنت فقالت بخير يا ابن أختي لقد كفرت النعمة وأسأت لابن عمك الصحبة وتسميت بغير اسمك وأخذت غير حقك وكنا أهل البيت أعظم الناس في هذا الدين بلاء حتى قبض الله نبيه مشكوراً سعيه مرفوعاً منزلته فوثبت علينا بعده تيم وعدي وأمية فابتزونا حقنا ووليتم علينا فكنا فيكم بمنزلة بني إسرائيل في آل فرعون وكان علي بن أبي طالب بعد نبينا بمنزلة هارون من موسى‏.‏

فقال لها عمرو بن العاص‏:‏ كفي أيتها العجوز الضالة واقصري عن قولك مع ذهاب عقلك‏.‏

فقالت‏:‏ وأنت يا ابن النابغة تتكلم وأمك كانت أشهر بغي بمكة وأرخصهن أجرة وادعاك خمسة من قريش فسُئلتْ أمك عنهم فقالت‏:‏ كلهم أتاني فانظروا أشبههم به فالحقوه به فغلب عليك شبه العاص بن وائِل فألحقوك به‏.‏

فقال لها معاوية‏:‏ عفا الله عما سلف هاتي حاجتك‏.‏

فقالت‏:‏ أريد ألفي دينار لأشتري بها عيناً فوارة في أرض خرارة تكون الفقراء بني الحارث بن عبد المطلب‏:‏ وألفي دينار أخرى أزوّج بها فقراء بني الحارث وألفي دينار أخرى أستعين بها على شدة الزمان فأمر لها معاوية بستة آلاف دينار فقبضتها وانصرفت‏.‏

ومعاوية أول خليفة بايع لولده وأول من وضع البريد وأول من عمل المقصورة في مسجد وأول من خطب جالساً في قول بعضهم وكان عبد الله بن جعفر بن أبي طالب ممن يرى سماع الأوتار والغناء وهو رأى أهل المدينة وكان معاوية ينكر ذلك عليه فدخل ابن جعفر يوماً على معاوية ومعه بديح المغني فقال ابن جعفر لبديح‏:‏ غنِّ فغنى بشعر كان يحبه معاوية وهو‏:‏ يا لُبينى أوقدي النارا إِن من تهوين قد حارا رب نار بِتُ أرمقها تقضم الهندي والغارا ولها ظبي يؤججها عاقد في الخصر زنارا فطرب معاوية وتحرك وضرب برجله الأرض فقال له ابن جعفر‏:‏ مَهْ يا أمير المؤمنين‏.‏

فقال معاوية‏:‏ إِنّ الكريم لطروب وقال معاوية‏:‏ أعنت على علي بثلاث كان رجلاً ظهرت علته وكنت كتوماً لسري‏.‏

وكان في أخبث جند وأشده خلافاً وكنت في أطوع جند وأقله خلافاً‏.‏

وخلا بأصحاب الجمل فقلت‏:‏ إِن ظفر بهم أعددت ذلك عليه وَهْنا وإن ظفروا به كانوا أهوَنَ شوكهَ عليّ منه‏.‏

أخبار يزيد ابنه وهو ثاني خلفائهم وأم يزيد ميسون بنت بحدل الكليبة بويع بالخلافة لما مات أبوه في رجب سنة ستين ولما استقر يزيد في الخلافة أرسل إِلى عامله بالمدينة بإِلزام الحسين وعبد الله بن الزبير وابن عمر بالبيعة فأما ابن عمر فقال‏:‏ إِن أجمع الناس على بيعته بايعته وأما الحسين وابن الزبير فلحقا بمكة ولم يبايعا وأرسل عامل المدينة جيشاً مع عمرو بن الزبير أخي عبد الله بن الزبير وكان شديد العداوة لأخيه عبد اللّه لقتال أخيه عبد الله فانتصر عبد الله بن الزبير وهزم الجمع الذي مع أخيه وأمسك أخاه عمراً وحبسه حتى مات في حبسه‏.‏

مسير الحسين إِلى الكوفة وورد على الحسين مكاتبات أهل الكوفة يحثونه على المسير إِليهم ليبايعوه وكان العامل عليها النعمان بن بشير الأنصاري فأرسل الحسين إِلى الكوفة ابن عمه مسلم بن عقيلٍ بن أبي طالب ليأخذ البيعة عليهم فوصل إِلى الكوفة وبايعه بها قيل ثلاثون ألفاً وقيل ثمانية وعشرون ألف نفس‏.‏

وبلغ يزيد عن النعمان بن بشير ما لا يرضيه فولى على الكوفة عبيد الله بن زياد وكان والياً على البصرة فقدم الكوفة ورأى ما الناس عليه فخطبهم وحثهم على طاعة يزيد بن معاوية واستمر مسلم بن عقيل عند قدوم عبيد الله بن زياد على ما كان ثم اجتمع إِلى مسلم بن عقيل من كان بايعه للحسين وحصروا عبيد الله بن زياد بقصره ولم يكن مع عبيد اللّه في القصر أكثر من ثلاثين رجلاً ثم إِن عبيد الله أمر أصحابه أن يشرفوا من القصر ويمنّوا أهل الطاعة ويخذلوا أهل المعصية حتى أن المرأة ليأتي ابنها وأخاها فتقول‏:‏ انصرف إِن الناس يكفونك قتفرق الناس عن مسلم ولم يبق مع مسلم غير ثلاثين رجلاً فانهزم واستتر ونادى منادي عبيد الله ابن زياد من أتى بمسلم بن عقيل فله ديته فأمسك مسلم وأُحضر إِليه ولما حضر مسلم بين يدي عبيد اللّه شتمه وشتم الحسين وعلياً وضرب عنقه في تلك الساعة ورميت جيفته من القصر ثم أحضر هانئ بن عروة وكان ممن أخذ البيعة للحسين فضرب عنقه أيضاً وبعث برأسيهما إِلى يزيد بن معاوية وكان مقتل مسلم بن عقيل لثمان مضين من ذي الحجة سنة ستين‏.‏

وأخذ الحسين وهو بمكة في التوجه إِلى العراق وكان عبد الله بن عباس يكره ذهاب الحسين إلى العراق خوفاً عليه وقال للحسين‏:‏ يا ابن العم إِني أخاف عليك أهل العراق فإِنهم قوم أهل غدر وأقم بهذا البلد فإِنك سيد أهل الحجاز وإن أبيت إِلا أن تخرج فسر إِلى اليمن فإِن بها فقال الحسين‏:‏ يا ابن العم إِني أعلم والله أنك ناصح مشفق ولقد أزمعت وأجمعت ثم خرج ابن عباس من عنده وخرج الحسين من مكة يوم التروية سنة ستين واجتمع عليه جمائع من العرب ثم لما بلغه مقتل ابن عمه مسلم بن عقيل وتخاذل الناس عنه وأعلم الحسين من معه بذلك وقال‏:‏ من أحب أن ينصرف فلينصرف فتفرق الناس عنه يميناً وشمالاً ولما وصل الحسين إِلى مكان يقال له سراف وصل إِليه الحر صاحب شرطة عبد الله بن زياد في ألفي فارس حتى وقفوا مقابل الحسين في حرّ الظهيرة فقال لهم الحسين‏:‏ ما أتيت إلا يكتبكم فإن رجعتم رجعت من هنا فقال له صاحب شرطة ابن زياد‏:‏ إِنا أُمرنا أن لا نفارقك‏.‏

حتى نوصلك الكوفة بين يدي عبيد الله بن زياد فقال الحسين‏:‏ الموت أهون من ذلك وما زالوا عليه حتى سار مع صاحب شرطة ابن زياد‏.‏

  ثم دخلت سنة إِحدى وستين

مقتل الحسين ولما سار الحسين مع الحر ورد كتاب من عبيد الله بن زياد إِلى الحر يأمره أن يُنزل الحسين ومن معه على غير ماء فأنزلهم في الموضع المعروف بكربلاء وذلك يوم الخميس ثاني المحرم من هذه السنة أعني سنة إِحدى وستين‏.‏

ولما كان من الغد قدم من الكوفة عمر بن سعد بن أبي وقاص بأربعة آلاف فارس أرسله ابن زياد لحرب الحسين فسأله الحسين في أن يُمكَّن إما من العود من حيثُ أتى وإمّا أن يجهّز إِلى يزيد بن معاوية وإما أن يُمكّن أن يلحق بالثغور‏.‏

فكتب عمر إِلى ابن زياد يسأل أن يجاب الحسين إِلى أحد هذه الأمور فاغتاط ابن زياد فقال‏:‏ لا ولا كرامة فأرسل مع شمّر بن ذي الجوشن إِلى عمر بن سعد إما أن تقاتل الحسين وتقتله وتطأ الخيل جثته وإِمّا أن تعتزل ويكون الأمير على الجيش شمر‏.‏

فقال عمر بن سعد بل أقاتله ونهض عشية الخميس تاسع المحرم هذه السنة والحسين جالس أمام بيته بعد صلاة العصر فلما قرب الجيش منه سألهم مع أخيه العباس أن يمهلوه إلى الغد وأنه يجيبهم إِلى ما يختارونه فأجابوه إِلى ذلك‏.‏

وقال الحسين لأصحابه إِني قد أذنت لكم فانطلقوا في هذا الليل وتفرقوا في سوادكم ومدائنكم‏.‏

فقال أخوه العباس‏:‏ لم نفعل ذلك لنبقى بعدك لا أرنا الله ذلك أبداً ثم تكلم أخوته وبنو أخيه وبنو عبد الله بن جعفر بنحو ذلك وكان الحسين وأصحابه يصلون الليل كله ويدعون فلما أصبحوا ركب عمر بن سعد في أصحابه وذلك يوم عاشوراء من السنة المذكورة وعبأ الحسين أصحابه وهم اثنان وثلاثون فارساً وأربعون راجلاً ثم حملوا على الحسين وأصحابه واستمر القتال إلى وقت الظهر من ذلك اليوم فصلى الحسين وأصحابه صلاة الخوف واشتد بالحسين العطش قتقدم ليشرب فرُمي بسهم فوقع في فمه ونادى شمر‏:‏ ويحكم ما تنتظرون بالرجل اقتلوه فضربه زرعة بن شريك على كفه وضربه آخر على عاتقه وطعنه سنان ابن أنس النخعي بالرمح فوقع فنزل إِليه فذبحه واحتز رأسه وقيل إِن الذي نزل واحتز رأسه هو شمر المذكور وجاء به إِلى عمر بن سعد فأمر عمر بن سعد جماعة فوطئوا صدر الحسين وظهره بخيولهم‏.‏

ثم بعث بالرؤوس والنساء والأطفال إلى عبيد الله بن زياد فجعل ابن زياد يقرع فم الحسين بقضيب في يده فقال له زيد بن أرقم‏:‏ ارفع هذا القضيب فوالذي لا إِله غيره لقد رأيت شفتي رسول اللّه صلى الله عليه وسلم على هاتين الشفتين ثم بكى وروي أنّه قتل مع الحسين من أولاد علي أربعة هم العباس وجعفر ومحمد وأبو بكر ومن أولاد الحسين أربعة وقتل عدة من أولاد عبد الله بن جعفر ومن أولاد عقيل‏.‏

ثم بعث ابن زياد بالرؤوس وبالنساء وبالأطفال إلى يزيد بن معاوية فوضع يزيد رأس الحسين بين يديه واستحضر النساء والأطفال ثم أمر النعمان بن بشير أن يجهزهم بما يصلحهم وأن يبعث معهم أميناً يوصلهم إلى المدينة فجهزهم إِلى المدينة ولما وصلوا إليها لقيهم نساء بني هاشم ماذا تقولونَ إِنْ قالَ النبي لكم ماذا فعلتم وأنتم آخر الأمم بعترتي وبأهلي بعد مفتقدي منهم أسارى وصرعى ضرجوا بدم ما كان هذا جزائي إذ نصحت لكم أن تخلفوني بسوء في ذوي رحمي واختلف في موضع رأس الحسين فقيل‏:‏ جهز إِلى المدينة ودفن عند أمه وقيل دفن عند باب الفراديس وقيل‏:‏ أن خلفاء مصر نقلوا من عسقلان رأساً إِلى القاهرة ودفنوه بها وبنوا عليه مشهداً يعرف بمشهد الحسين وقد اختلف في عمره والصحيح أنه خمس وخمسون سنة وأشهر وقيل حج الحسين خمساً وعشرين حجة وكان يصلي في اليوم والليلة ألف ركعة‏.‏

وأما عبد الله بن الزبير فإِنه استمر بمكة ممتنعاً عن الدخول في طاعة يزيد ابن معاوية‏.‏

  ثم دخلت سنة اثنتين وستين وسنة ثلاث وستين

فيها اتفق أهل المدينة على خلع يزيد بن معاوية وأخرجوا نائبه عثمان بن محمد بن أبي سفيان منها فجهز يزيد جيشاً مع مسلم بن عقبة وأمره يزيد أن يقاتل أهل المدينة فإِذا ظفر بهم أباحها للجند ثلاثة أيام يسفكون فيها الدماء ويأخذون ما يجدون من الأموال وأن يبايعهم على أنهم خوّل وعبيد ليزيد وإذا فرغ من المدينة يسير إِلى مكة‏.‏

فسار مسلم المذكور في عشرة آلاف فارس من أهل الشام حتى نزل على المدينة من جهة الحرة وأصر أهل المدينة من المهاجرين والأنصار وغيرهم على قتاله وعملوا خندقاً واقتتلوا فقتل الفضل بن العباس بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب بعد أن قاتل قتالاً عظيماً وكذلك قتل جماعة من الأشراف والأنصار ودام قتالهم ثم انهزم أهل المدينة وأباح مسلم مدينة النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة أيام يقتلون فيها الناس ويأخذون ما بها من الأموال ويفسقون بالنساء‏.‏

وعن الزهري أنّ قتلى الحرة كانوا سبعمائة من وجوه الناس من قريش والمهاجرين والأنصار وعشرة آلاف من وجوه الموالي وممن لا يعرف وكانت الوقعة لثلاث بقين من ذي الحجة سنة ثلاث وستين ثم إِنّ مسلماً بايع من بقي من الناس على أنهم خوّل وعبيد ليزيد بن معاوية ولما فرغ مسلم بن عقبة من المدينة سار بالجيش إلى مكة‏.‏